النكبة التي لم تنجح
حسام شاكر
باحث ومؤلففي ذكراها السادسة والستين ما يؤكد أنّ مشروع النكبة لم يستوفِ شروط نجاحه؛ كان من المفترض بمنطق مقترفي النكبة أن يأتي ذكر الواقعة في سجلات أحداث الماضي المنسيّة، وربّما وفق رواية الجاني المُنتصر، لكنّ فلسطين ظلّت حاضرة بقضيّتها، وما زالت تتصدّر الحدث العالمي، وتشغل السياسة والثقافة والإعلام والمجتمع المدني، أمّا فصول الرواية فتنكشف تباعًا بتفاصيلها المستترة.
يؤكِّد هذا أنّ المشروع لم يَمضِ في مآلاته وفق ما خطّط له أربابُه، وهو استنتاج تعزِّزه مؤشِّرات الديموغرافيا، مثلًا، التي تُظهِر الشعب الفلسطيني وقد أعاد ترميم مخزونه السكاني في الداخل الفلسطيني على نحو مذهل، إذ يعيش اليوم من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948م ما يربو على تعدادهم فيها قبل النكبة، بهذا لم يُفلح مشروع الاقتلاع في اجتثاث الوجود الفلسطيني من أراضي الـ(48)، وإن أُخليت مناطق واسعة منهم، كما لم يُفلح مشروع "الأسرلة" في تحقيق مآربه بمسخ الهوية، وعزل فلسطينيي الـ(48) عن انتمائهم الحضاري وسياقهم الثقافي.
أمّا بالنظر إلى فلسطين الكاملة فإنّ كلّ حملات الاجتذاب والاستيطان المحمومة لليهود وللمشكوك في يهوديّتهم، عبر ما يزيد على قرن من الزمان؛ لا تتجاوز حصيلتها اليوم تعداد الفلسطينيين في هذه البلاد، حتى بعد تهجير ثلثي الشعب خارج بلاده.
وبشيء من التدقيق نكتشف أنّ ربع (الإسرائيليين) أو ثلثهم يعيشون خارج فلسطين بصفة دائمة أو مؤقتة، أمّا الفلسطيني فما زال يخوض معركته اليومية للتشبّث بأرضه وداره، وقد استلهم العظات من درس النكبة والتهجير.
وما يؤكِّد أنّ دورة الاستدراك التاريخي ماضية في فلسطين بثبات ما يجده العالم في كلّ مكان من علوّ رمز المفتاح بعد ثلثي قرن من النكبة، وفي ظلاله تتفاعل إرادة الشعب الفلسطيني التي تتطوّر إلى صيغ متعدِّدة الأشكال، من مقاومين في الأنفاق، ومضربين في السجون، إلى متشبِّثين بالمخيمات، وناشطين في الحراك المدني والجماهيري حول العالم، وبين هذه العناوين تفاصيل وفيرة تؤكِّد أنّ للشعب الفلسطيني برنامجه في العودة واستئناف الكيانية الفلسطينية على أرضها التاريخية.
وقد يلحظ بعضهم أنّ الهجمة على فلسطين التي بدأت بمؤتمرات في أوروبا يقابلها برنامج العودة الذي يواصل مؤتمراته المشهودة في أوروبا كذلك، مستصحبًا معها تفاعلات متنامية في الوطن المحتل والشتات الفسيح عنوانها العودة والتحرير.
صحيح أنّ قضية فلسطين تواجه وفرةً من المخاطر والمآزق في منعطفها التاريخي الراهن، وصحيح أيضًا أنّ الأداء السياسي الفلسطيني انزلق إلى مسارات عابثة في العقود الأخيرة كانت لها كلفتها الباهظة، ولا يخفى أنّ مشروع الاحتلال يواصل فرض الأمر الواقع على الأرض كلّ صباح، إلا أنّ ذلك كلّه لا يُواري حقائق مقابلة؛ فقدرات المقاومة الفلسطينية تنامت حتى أصبح لها جيشها المقتدر على الأرض الفلسطينية نفسها، وأنّ هذه المقاومة أوجدت حالة استعصاء على المحتلّ في قطاع غزة على الأقل، وأنّ فلسطينيي الـ(48) يفرضون معادلة السهل الممتنع في الصراع، وأنّ مراهنة الاحتلال على عامل الزمن تواجهها عيونٌ مفتوحة حول العالم ترصد انتهاكاته وتعدِّياته، وتصعِّد التعبئة ضدّه بما بلغ حدّ المقاطعة، وفرض العقوبات، ونزع الاستثمارات، وتحريك المتضامنين.
ليس ذلك كلّه بالتحوّل اليسير في تاريخ القضية؛ فعندما باشرت القيادة الصهيونية تنفيذ مشروع النكبة كانت أذرعها تصول في عالم الدعاية وتجول، وتمرِّر مقولاتها عبر الثقافات واللغات دون عوائق تُذكَر. ولم يكن للفلسطيني الذي يقاسي الاقتلاع صوتٌ مسموع، أو أدوات للتواصل والتأثير، أمّا اليوم فإنّ الحقّ الفلسطيني يتحدّث بلغات العالم، ويجد له من الأنصار على تنوّع مشاربهم من وقفوا أنفسهم لخدمة هذه القضية العادلة والسهر لأجلها، في حين تلوذ دعاية الاحتلال بفلول اليمين المتطرِّف والأصوات المتعصِّبة، والحالمين بصراع الحضارات والمراكز المدفوعة الأجر.
في صميم المعادلة يأتي الإنسان الفلسطيني الذي لم يتنازل عن حقِّه، واستعصت إرادته على محاولات التصفية السياسية التي استهدفت قضيته العادلة، أي أنّ النكبة إن ذهبت بعيدًا في فعلها الفيزيائي باقتلاع معظم الشعب من وطنه؛ فإنّها أخفقت إخفاقًا جسيمًا في شقّها المعنوي؛ فلم تفلح في اقتلاع فلسطين من شعبها.
في تفسير الإخفاق نقول: إنّ من خطّطوا للنكبة أعماهم استعلاؤهم العنصري عن تقدير المخزون النضالي لهذا الشعب، وتجاهلوا عظات التاريخ ولم يفهموا دروس فلسطين نفسها مع الغزاة، وصرفتهم غطرستهم عن استشراف المستقبل الذي نعيشه اليوم، فاستسهلوا الحديث عن أجيال ستنسى وتذوب في عالم فسيح، ولأنّ القضية لم تنته بعد ثلثي قرن؛ إن النكبة تحرِّر شهادة إخفاقها المتجددة مع كلّ مفتاح يعلو في المسيرة.
المصدر: فلسطين أون لاين
أضف تعليق
قواعد المشاركة