ندى لافي كلَّم (أم علي)... وصيَّةُ الأَرض التي لا تموتُ
محمود كلّم
كاتب فلسطينيبين الزَّعترِ والزَّيتونِ، وبين حكايا الأُمَّهاتِ وصوت الأرض، وُلدت ندى لافي كلَّم (أم علي)، ابنةُ الجليل، حاملةً في قلبها وصيَّةَ الأرض وحُبَّها العميق. لم تكن مجرد امرأةٍ عابرةٍ، بل كانت صوت المكان وذاكرةً حيَّةً تحرُسُ التاريخ من النِّسيانِ.
حين أَذكُرُ ندى، أَستحضرُ الأرض وكأنَّها كائنٌ حيٌّ يتنفَّسُ ويحيا ويبكي.
لم تكن ندى مجرد فتاةٍ، بل كانت قطعةً من الجليل نفسهِ، جُزءاً من تُرابهِ وصخرهِ، ومن ماءِ وديانهِ وهواءِ جبالهِ. وُلدت هناك، في أحضانِ عشيرة عرب السَّمنيَّة، وفتحت عينيها على زيتونةٍ عجُوزٍ تحرُسُ الباب، وعلى زهرِ الليمُونِ الذي يُعطِّرُ الهواء كأنَّهُ نسيمٌ في فجرِ الصَّباحِ .
كبرت ندى بين كُرُومِ العنبِ التي تمتدُّ كعُروقِ الأرضِ، تتسلَّقُ أَعمدتها، وتقطفُ عناقيدها الصَّغيرةَ، وتُخبِّئُها في حضنها كأنَّها تُخبِّئُ أسرار الطُّفُولة.
لم تكنِ الكُرُومُ بالنِّسبةِ إليها مجردَ أشجارٍ مُثمرةٍ، بل كانت جُنُوداً تحرُسُ الحقل وتحفظُ تاريخاً طويلاً من الصَّبر والمُقاومةِ.
في كلِّ صباحٍ، كانت رائحةُ زهرِ اللَّيمُونِ تمتزجُ مع عبقِ الزَّعترِ الأخضرِ الذي ينبُتُ على سُفُوحِ جبالِ الجليل.
وفي رائحةِ الزَّعترِ، كانت ندى تستنشقُ حكايا الفلَّاحين الذين حرثُوا الأرض بأَيديهم، وغنَّوا للمطر وللزَّيتونِ وللعودةِ التي لم تغب عن وجدانهم يوماً. حتى بعد رحيلها، بقي الزَّعترُ في الجليل يحملُ شيئاً من عطرها ومن صُمُودها الذي يُشبهُ صُمُودَ الصُّخُورِ تحت الشَّمس الحارقةِ.
لم يكنِ الزَّيتُ والزَّيتونُ في بيتها مجرد طعامٍ، بل عادةً يوميَّةً تشبِهُ إعلانَ الولاءِ للأرضِ. كانت تقُولُ: "هذا الزَّيتُ عصرناهُ من شجراتنا، وهذا الزَّيتونُ حملناهُ في قُلُوبنا كما نحملُ همَّ فلسطين." كان الزَّيتونُ عندها مثل البُندُقيَّة، يحملُ في لونه الأخضر وفي طعمه المُرِّ وصيَّة الأَجدادِ: "الأرضُ أمانةٌ... والزَّيتونُ شاهدٌ."
لم تكن ندى ترى الماء في وادي القرن مجرد ماءٍ عابرٍ، بل كانت ترى فيه دُمُوعَ الأُمَّهاتِ اللَّواتِي ودَّعنَ أَبناءهُنَّ، وترى فيه عرق الفلَّاحين الذين غرسُوا فيه الحياة، رغم شُحِّ الماء ووجع الأَيَّام.
وادي كركرة أيضاً كان جُزءاً من ذاكرتها المُقاومة؛ ماؤُهُ حمل رسائل خفيَّةً عبر الحجارة، وصوتُهُ كان نشيداً حزيناً لكنَّهُ لا ينكسرُ.
كلما جاء الرَّبيعُ، جمعت ندى ورد الدِّفلى عن ضفاف الوادي، وصنعت منهُ أكاليل صغيرةً كانت تُعلِّقُها على نوافذ البيت، كأنَّها تقُولُ: "هذا الوردُ ابنُ الأرضِ، لا ينكسرُ ولا يخافُ، ونحنُ كذلك."
عاشت ندى الحنين للأرض وكأنَّهُ فعلُ مُقاومةٍ يوميُّ. كانت تحفظُ أسماء الحُقُولِ، وأسماء عُيُونِ الماءِ، وأسماء الوديان، كأنَّها تحفظُ أسماءَ إخوتها.
لم تكن ندى تحملُ البُندُقيَّة، لكنَّها حملت ما هو أَثقلُ: (ذاكرة الأرض)
وصيَّةُ ندى
"احفظُوا أسماءَ الحُقُولِ والوديانِ، لا تنسوا أسماءَ العُيُونِ ولا صوت الماء. علِّمُوا الأطفال كيف يُميِّزُون بين رائحة الزَّعتر البرِّيِّ وزهر اللَّيمُون. أخبرُوهُم أنَّ الزَّيتون ليس مجرد شجرةٍ، بل هو أَبٌ قديمٌ يحرُسُ البيت حتَّى لو هُدِمَ، وأنَّ وادي القرن يعرفُ أَقدام الأَجداد كما يعرفُ دُمُوعهُم. أخبرُوهُم أنَّ الأرض ليست حكايةً قديمةً في كُتُبِ المدرسةِ، الأرضُ نحنُ، وحينَ نخُونُها نخُونُ أَنفُسنا."
وهكذا تمضي ندى... لكنَّها لا ترحلُ.
تبقى لأنَّ من يُولدُ على هذه الأرضِ، لا يَمُوتُ فيها... بل يتحوَّلُ إلى جُزءٍ منها.


أضف تعليق
قواعد المشاركة