فلسطين… حين تسقط الإنسانية من جدول الأعمال

منذ 7 ساعات   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

ليس ما يحدث في غزة نقصاً في الغذاء، ولا خللاً في المساعدات، ولا أزمةً إنسانيةً تنتظر إدارةً أفضل. ما يحدث هناك هو إعلانٌ غير مكتوب عن سقوط الإنسان من الحسابات الكبرى، وإقصاء فلسطين من تعريف الحياة التي تستحق الحماية.

 

في غزة، لا تموت الأجساد فقط، بل تُغتال القيم واحدةً تلو الأخرى. يُدفَع شعبٌ كامل إلى حافة الفناء، لا لأن العالم عاجز، بل لأنه اختار أن يكون أعمى. اختار أن يرى الخراب ويُسمّيه “تصعيداً”، وأن يشاهد المجازر ويُخفِيها خلف لغةٍ باردة، مُعقَّمة، خالية من أي إحساس بالعار.

 

الخيام التي تُقتلع فوق رؤوس النازحين ليست مجرد قماشٍ مهترئ، بل آخر ما تبقّى من ادّعاء الرحمة في هذا العالم. حين تُدمَّر الخيمة، يُدمَّر معها الوهم بأن هناك حدّاً أدنى لا يجوز تجاوزه. في غزة، لا خطوط حمراء، لأن الدم الفلسطيني لا يرسمها.

 

الأطفال هناك لا يقرؤون المواثيق الدولية، لكنهم يُقتلون باسمها. يُدفنون تحت ركام صمتٍ عالميّ، أكثر ثِقَلاً من القنابل، وأشدّ فتكاً من الحصار. والأمهات اللواتي يصرخن بين الأنقاض لا يطالبن بالعدالة الكونية، بل بحقٍّ بدائيّ في البقاء، حقٍّ يبدو أنه لم يُدرَج يوماً ضمن أولويات النظام الدولي حين تكون فلسطين هي العنوان.

 

العالم الذي ينتفض سريعاً دفاعاً عن حقوق الإنسان في بقاعٍ أخرى، يصاب فجأةً بالشلل حين تُنتهك هذه الحقوق في فلسطين. تختفي العقوبات، وتذوب القرارات، وتتحوّل الشرعية الدولية إلى حبرٍ خجول لا يجرؤ على تسمية الجريمة باسمها. هنا، تنكشف الحقيقة بلا مساحيق: حقوق الإنسان ليست مبدأً، بل أداة، تُستخدم حيث تخدم المصالح، وتُعلَّق حيث تُربكها.

 

ليس الصمت الدولي تجاه غزة حياداً، بل موقف. وليس التردد عجزاً، بل اختياراً أخلاقياً منحازاً للقوة ضد الضعفاء. كل بيانٍ فارغ، وكل دعوةٍ “لضبط النفس”، وكل مساواةٍ فاسدة بين الضحية والجلاد، ليست سوى مشاركة غير مباشرة في الجريمة، وتوقيعٍ متكرّر على شهادة موت العدالة.

 

في فلسطين، يُطالَب المقهور بأن يكون عاقلاً، مهذّباً، ملتزماً بالقانون، فيما يُمنَح القاتل حصانة الخطاب وحقّ الإفلات. يُطلب من الضحية أن تموت بصمت، كي لا تُحرج الضمير العالمي، ولا تُربك توازناته السياسية الهشّة.

 

ما يُهدم في غزة ليس البيوت وحدها، بل فكرة القانون الدولي ذاتها. وما يُسحق هناك ليس الأجساد فقط، بل آخر ما تبقّى من مصداقية عالمٍ يدّعي أنه تعلّم من مآسي التاريخ. أمام فلسطين، يفشل هذا العالم فشلاً ذريعاً، لا لأنه لا يعرف ما يحدث، بل لأنه يعرف، ويختار ألا يفعل شيئاً.

 

غزة ليست استثناءً عابراً، بل هي الفضيحة الدائمة. المرآة التي تعكس وجه نظامٍ دوليّ يتحدّث كثيراً عن الإنسانية، ويمارس القسوة ببرودٍ إداريّ. وفي كل مرة تُدفن فيها روحٌ فلسطينية، يُدفن معها جزءٌ من الوهم بأن هذا العالم ما زال صالحاً لأن يُلقي دروساً في الأخلاق.

 

محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

فلسطين… حين تسقط الإنسانية من جدول الأعمال

ليس ما يحدث في غزة نقصاً في الغذاء، ولا خللاً في المساعدات، ولا أزمةً إنسانيةً تنتظر إدارةً أفضل. ما يحدث هناك هو إعلانٌ غير مكتوب… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون