الكتابة عن فلسطين: بيان الموت المؤجَّل
محمود كلّم
كاتب فلسطينيالكتابة عن فلسطين ليست موقفاً ثقافياً،
ولا رأياً يُدرج في هامش الحرية.
إنه إعلانٌ مبكّر عن الاستعداد الكامل للتضحية في سبيل فلسطين،
من دون ضمانات،
ومن دون شهود عدل.
من يكتب عن فلسطين يعرف — أو يجب أن يعرف — أنه دخل منطقةً لا يحميه فيها شيء:
لا القانون،
ولا الأخلاق الدولية،
ولا ضجيج حقوق الإنسان.
الكتابة هنا ليست حبراً،
بل مواجهة مباشرة مع منظومةٍ قررت أن تجعل من فلسطين جريمةً لغوية،
ومن الحقيقة خطراً أمنياً.
قال الشهيد ناجي العلي، بوضوحٍ لا يقبل التأويل:
«اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت.
أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي.»
لم يكن هذا القول مجازاً،
ولا تهديداً شعرياً،
بل توصيفاً دقيقاً لمسارٍ معروف النهاية.
لم يُغتَل ناجي العلي لأنه رسم،
بل لأنه قال الحقيقة،
ولأنه أدرك مبكراً أن المشكلة ليست في الأسلوب،
بل في الفكرة ذاتها.
أن تكتب عن فلسطين يعني أن تضع رأسك في مواجهة المقصلة،
وأن تفهم أن الرصاصة لا تكره الضحية،
بل الرسالة التي تحملها.
العالم لا يخاف العنف،
العالم يخاف الوضوح والحقيقة.
يخاف جملةً لا يمكن تدويرها،
وصورةً لا تصلح للاستهلاك السياسي،
وصوتاً يرفض أن يتحوّل إلى ديكورٍ أخلاقي.
لهذا يُطلب من الكاتب دائماً أن يكون «عاقلاً»، أي صامتاً بما يكفي.
وأن يكون «متوازناً»،
أي أعمى عن الجلّاد.
وأن يكون «إنسانياً»،
لكن من دون أن يسمّي من جرّد الفلسطيني من إنسانيته.
أنا لا أؤمن بهذه الشروط،
ولا أؤمن بحياةٍ تُشترى بالتراجع.
الرقبة التي تُنقَذ بالخيانة
لا تستحق أن تُحمل فوق جسدٍ يدّعي الكرامة.
فلسطين لا تحتاج نصوصاً مهذّبة،
ولا أقلاماً تخشى الصدام،
ولا كتّاباً يحسبون أعمارهم قبل جُملهم.
هي تحتاج من يكتب وهو يعرف
أن الكلمات قد تكون آخر ما يملكه،
وأن الثمن معروف،
لكن السكوت أغلى.
الكتابة عن فلسطين ليست بطولة،
بل الحدّ الأدنى من الصدق.
وإن كان الصدق في هذا الزمن
جريمةً تستحق القطع،
فليُكتب المقال كاملاً،
ولتظلّ الرؤوس مرفوعة
حتى وهي تُستهدَف.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة