حين ينكسرُ قلبُ الأب… ولا أحدَ يسمع!

منذ 6 أشهر   شارك:

محمود كلّم

كاتب فلسطيني

عن الحاج خليل محمد بنات، والد الشهيد نزار بنات.

الأبُ الذي ربّى نزار، وربّى الصوت… ثم فقد كليهما.

في الزاويةِ المقابلة، بعيداً عن عدسات الكاميرات، كان يقف الحاجُّ خليل بنات…

أبُ الشهيد نزار،

رجلٌ يُشبه الأرض في صلابتها، لكنّه يوم رحيلِ نزار، تصدَّعت فيه الجبال.

لم يقُل كثيراً، ولم يَبكِ أمام الناس،

لكن في عينيه شيءٌ يُشبه الحريق…

نارٌ هادئة، لكنها لا تنطفئ.

هو الأبُ الذي أنجب الصوت، وربّى الصدق، وغرس في ابنه جذور الرجولة.

علّمه أن يمشي مرفوع الرأس، حتى لو كانت الأرضُ كلُّها منحدراً نحو الخوف،

لكن… من يُعلّم الأب كيف ينهض حين يسقطُ ابنُه؟

في كلِّ بيتٍ فلسطينيٍّ حكايةُ وجع،

لكنّ جرح الأب... هو الجُرحُ الصامت.

لا يكتبُ الشُّعراءُ عن دموعه،

ولا تقف الخُطبُ كثيراً عند غصّته.

لأنّه لا يصرخ،

ولا ينهارُ أمام أحد.

نزار لم يكن مجرّد ابن،

كان صديقاً لوالده، وظلَّه الذي لا يُفارقه.

كان يفتخر بأبيه، ويحملُه في قلبه أينما ذهب.

وحين رُزق نزار بابن، سمّاه "خليل"، تيمُّناً بالرجلِ الذي علّمه الرجولة.

قال يومها:

"أبي يستحق أن يبقى اسمُه حيّاً، حتى في حفيدي."

لكن نزار غاب،

وغابت معه الضحكةُ، والنقاشاتُ، وكوبُ الشاي المشتركُ عند الغروب.

في الليل، حين تنام الأمُّ وتغفو الأحفاد،

يجلس الحاج خليل في صمتٍ طويل، يحدّق في صورته،

ويُحادثه كأنّه لم يمت:

"كنتَ تقول الحقيقة يا بُنيّ، لكن الحقيقة قتلتك… وقلبي معك ما زال ينزف."

هو لا يبحثُ عن عدالةٍ في المحكمة،

ولا عن عزاءٍ في المواساة،

هو فقط يُريد أن يسمع صوته مرّةً أخيرة،

أن يسمعه يضحك، يغضب، يقول:

"صباحُ الخير يا أبي."

لكن صباحات البيت لم تعُد كما كانت.

المائدةُ ناقصة،

والكرسيُّ الخشبيُّ بجانبِ البابِ فارغ،

والكوفيّةُ التي كان نزار يضعُها، ما زالت مُعلّقة… لم يجرؤ أحدٌ على لمسِها.

الأب لا ينهار كما تفعل الأمهات،

هو ينهار من الداخل،

ببطءٍ، دون صوت، دون ضجيج.

وحين يذكر أحدٌ اسم نزار أمامه،

يكتفي بهزّة رأس، أو تنهيدةٍ طويلة،

ثم يقول:

"كان ابني… وكان وطناً."

الشهيد نزار بنات لم يكن مجرّد ابنٍ لأمٍّ عظيمة،

كان أيضاً امتداداً لقلبِ رجلٍ اسمه خليل،

أبٌ ربّى الصوت، فصار الصوتُ وطناً.

في زمنٍ تُقال فيه الشهاداتُ على المنابر،

هناك آباءٌ يكتبونها بصمت،

كلّما عادوا إلى بيوتهم،

ولم يجدوا أبناءهم عند الباب.

رحل نزار… وترك في قلب أبيه حفرةً لا قرارَ لها.

صار الحاج خليل يُخفي وجعه بين الناس،

ويمسح دموعه بصمتٍ حين لا يراه أحد.

ليس لأنّه لا يشعر،

بل لأنّ الجرح أكبر من أن يُروى،

وأشدُّ من أن يُشارك.

هو لا يعيش بعده كما كان،

لكنه يتظاهر بالحياة…

فقط لأن نزار كان يحبُّ أن يراه قويّاً.

وفي كلِّ مساء، حين يُطفأ ضوء البيت،

يبقى نورٌ صغير لا ينطفئ في قلب الأب:

أملٌ ضعيفٌ بلقاءٍ في حلمٍ،

أو صوتٌ يأتيه من الغياب، يهمس:

"يابا… لا تزعل، أنا لا زلتُ حولك."

رحل نزار،

لكن الأب ما زال هناك في السلط…

ينتظر صوته،

ويُخبّئ الوجع في صدره كأنّه آخرُ ما تبقّى منه حيّاً.

[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.


مقالات متعلّقة


أضف تعليق

قواعد المشاركة

 

تغريدة عارف حجاوي

twitter.com/aref_hijjawi/status/1144230309812215814 




تغريدة عبدالله الشايجي

twitter.com/docshayji/status/1140378429461807104




تغريدة آنيا الأفندي

twitter.com/Ania27El/status/1139814974052806657 




تغريدة إحسان الفقيه

twitter.com/EHSANFAKEEH/status/1116064323368046593




تغريدة ياسر الزعاترة

twitter.com/YZaatreh/status/1110080114400751616 




تغريدة إليسا

twitter.com/elissakh/status/1110110869982203905 





 

محمود كلّم

القضية الفلسطينية في لبنان: صراع سلطة أم تصفية حقوق؟

بين الحديث عن نزع السلاح وبيع العقارات، يبقى الفلسطيني في لبنان خارج معادلة القرار، محروماً من حقوقه المدنية والاجتماعية، ومطالباً… تتمة »


    ابراهيم العلي

    في ظلال يوم الأرض الفلسطينون : متجذرون ولانقبل التفريط

    ابراهيم العلي

     يعد انتزاع الاراضي من أصحابها الأصليين الفلسطينيين والإستيلاء عليها أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الاحلالي ، فالأيدلوجية الصهي… تتمة »


    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية..
صامدون - عاملون - عائدون
    تتقدم مؤسسة العودة الفلسطينية من عمال فلسطين بأطيب الأمنيات وأجلّ التحيات لما يقدمونه من جهد وعمل وتضحية.. صامدون - عاملون - عائدون