غزة… حين يشبه البردُ الغياب
محمود كلّم
كاتب فلسطينييقال إن البرد يشبه الغياب… لذلك لا تتعجب إن رأيتَ أحدهم يرتجف قرب النار.
وفي غزة لا يرتجف الناس من زمهرير الشتاء وحده، بل من خوفٍ صار يسكن العظم، ومن غيابٍ لا تدفئه كل مواقد العالم.
في شوارع المدينة يمشي الناجون كما لو أنهم ظلٌّ لأجسادهم، يبحثون عن شيء يشبه الحياة. البيوت المهدّمة تقف كشواهد على زمنٍ صار أقسى من كل حروب المنطقة. وفي المخيمات، يختلط بخار الأنفاس بلهيب الحكايات الدامية، وتتحول الخيام إلى مقابر للذكريات.
غزة ليست عنواناً عابراً في نشرة الأخبار.
إنها سؤالٌ سياسيٌّ معلّق في وجه العالم: كيف تُترك مدينة كاملة وحيدة تحت الرماد، تحت سماءٍ لا تنام طائراتها؟
المشهد السياسي هنا لا يُقرأ في بيانات المؤتمرات، بل في وجوه الأطفال الذين فقدوا أسماء مدارسهم، وفي أصابع الأمهات المتيبّسة حول صور أبنائهن.
المفاوضات التي تُدار من بعيد لا تصل أصواتها إلى الأزقة التي تحوّلت إلى ركام.
بينما العالم يدوّر الكلمات، يدوّر الغزيون حياتهم فوق هاوية مفتوحة.
كل موجة برد تمرّ على القطاع تذكّر الجميع بأن غياب العدالة أبرد من كل الرياح.
لا شيء أثقل على القلب من رؤية بشرٍ يفترشون الألم، بانتظار قرارٍ دولي يعرفون مسبقاً أنه لن يصل في الوقت المناسب.
السياسة هنا ليست لغة القادة، بل لغة الجائعين.
إنها صوتٌ مخنوق في صدر أمّ لا تجد ما تغطي به أبناءها، وصرخة رجل كان يملك بيتاً، وصار لا يملك حتى ظلّه.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل قضية أخلاقية تطارد كل من يظن أنه يستطيع عبور المشهد دون أن يراه.
وإذا كان البرد يشبه الغياب… فإن أقسى ما في غزة أنها ترتجف أمام العالم كلّه، ولا أحد يقترب ليمدّ لها يداً حقيقية.
يبقى السؤال معلّقاً:
هل سيأتي يومٌ تصبح فيه غزة خبراً سعيداً؟
أم سيظل العالم يتدفأ على نارها بينما يترك أهلها يرتجفون في العراء؟
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة