حين يصبح الصمت شراكة في الجريمة: غزّة تحت إدارة الموت
محمود كلّم
كاتب فلسطينيما يجري في غزّة لم يعد حرباً، ولا «نزاعاً» قابلاً للتأويل السياسي. ما يجري هو إعدام جماعي مفتوح، يُنفَّذ بيد الاحتلال، ويُشرعن سياسياً بموافقة أمريكية كاملة، ويُدار بصيغة خطة غامضة تُنسب إلى دونالد ترامب، عنوانها المعلن «الحل»، وجوهرها الفعلي: ترك الفلسطينيين يموتون ببطء.
غزّة تُعذَّب عمداً. تُجوَّع عمداً. تُدمَّر عمداً. أكثر من مليوني إنسان، معظمهم من النساء والأطفال، يُحاصرون خارج الزمن، بلا ماء ولا دواء ولا مأوى، فيما آلة القتل تعمل بلا سقف أخلاقي أو قانوني. هذا ليس فشلاً دولياً، بل قرار دولي واضح: عدم التدخّل، وعدم المحاسبة، وترك الاحتلال يُكمل مهمته.
الإدارة الأمريكية لا تكتفي بالصمت، بل توفّر الغطاء السياسي والديبلوماسي والعسكري لكل مجزرة. الفيتو يُستخدم لحماية القاتل، والمساعدات العسكرية تتدفّق، والتصريحات تُفصّل على قياس الجريمة. أمّا «خطة ترامب»، فليست سوى إطار فضفاض لإدارة الخراب، وتأجيل أي مساءلة، ومنح الإحتلال وقتاً إضافياً لإعادة هندسة غزّة على أنقاض أهلها.
الاحتلال لا يخوض حرباً ضد مقاومة، بل ضد الحياة نفسها. المستشفيات أهداف مشروعة، مراكز الإيواء ساحات قصف، والخبز ورقة ضغط. التجويع تحوّل إلى سلاح معلن، والتهجير سياسة رسمية، فيما المجتمع الدولي يراقب، ويسجّل، ثم يُغلق دفاتره على جملة مكرّرة: «نحثّ على ضبط النفس».
أي ضبط نفس يُطلب من شعب يُذبح؟ وأي «حسن نوايا» يُعوَّل عليه من رئيس أمريكي يرى في القضية الفلسطينية عبئاً سياسياً لا قضية عدالة؟ الرهان على ترامب ليس سذاجة سياسية فقط، بل تواطؤ أخلاقي مع جريمة مستمرّة.
غزّة اليوم مرآة النظام العالمي: حيث تُقاس الدماء بالتحالفات، وتُحدَّد قيمة الإنسان بحسب موقعه الجغرافي، ويُترك شعب كامل تحت القصف لأن قاتله حليف. هذه ليست مأساة إنسانية عابرة، بل لحظة كاشفة لانهيار القانون الدولي، وسقوط الخطاب الغربي عن حقوق الإنسان سقوطاً مدوّياً.
غزّة لا تطلب الشفقة، بل العدالة. ولا تحتاج بيانات، بل وقفاً حقيقياً للقتل، ومحاسبة صريحة للمجرمين، وفضحاً علنياً للشركاء. وما لم يحدث ذلك، سيبقى الموت في غزّة سياسة، وسيبقى الصمت الدولي شريكاً في الجريمة.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.



أضف تعليق
قواعد المشاركة