غزة تدقّ جدران الخزان... ولا يسمعها إلا غسان كنفاني!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي نهاية روايته "رجال في الشمس"، أطلق غسان كنفاني صرخته المدوّية:
"لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟"
كانت أكثر من مجرد سؤال؛ كانت اتهاماً، ومرآة، وصفعةً في وجه العجز والخنوع والانتظار القاتل.
لم يكن يسأل عن مصير الرجال الثلاثة الذين ماتوا في صمت، بقدر ما كان يسأل عن مصير أمةٍ اختارت أن تموت خنقاً في عزلتها، بدلاً من أن تصرخ، أو تحتج، أو حتى تحاول النجاة.
غزة تموت خلف جدار الصمت، تحت رماد البيوت المحترقة، تحت جثث الأطفال، وتحت عجز العالم.
غزة، المحاصَرة منذ سنوات، المخنوقة بالحديد والنار، تصرخ كل يوم، لكنها تصرخ داخل خزانٍ مغلقٍ بإحكام، لا أحد يسمعها.
وكأن الغطاء قد أُحكم بإرادة دولية، كي لا يصل الصوت أبعد من حدود الدم المسفوك.
غزة التي دقّت جدران الخزان بكل قوتها... لكنها لم تجد من يفتح.
تماماً كما مات الرجال الثلاثة في الرواية تحت شمسٍ لاهبة،
تموت غزة ألف مرة تحت نيرانٍ لا ترحم:
في شاحنات الإغاثة، في قوارب البحر، في طوابير الانتظار.
تموت تحت أنظار سلطة فقدت رجولتها، تماماً مثل "أبو الخيزران"، لا ترى في الدم إلا طريقاً للربح، ولا في الناس إلا سلعةً قابلةً للاستهلاك السياسي.
أيها "القائد"، يا من فقدت رجولتك، ويا من اعتدت الصمت بينما يحترق "شعبك"... لا تَلُم من ماتوا في الخزان. لومك على نفسك أولى.
يا غسان، إنهم دقّوا جدران الخزان، واللهِ دقّوه، حتى تورّمت أيديهم، وتهشّمت أصواتهم،
لكن العالم كان منشغلاً بصناعة أقفالٍ جديدة، وأبوابٍ أكثر سُمكاً، كي لا يصل الصوت، كي لا يوقظه الألم الفلسطيني مرةً أخرى.
غزة اليوم ليست بحاجة فقط إلى من يسمع صرختها، بل إلى من يملك الجرأة كي يقرع الجدران معها، كي يكسر هذا الخزان اللعين، كي يقول: كفى.
في غزة، يموت الناس كل يوم بصمت، وتُدفن الأحلام تحت البيوت المهدّمة، ويعلو الصراخ دون مجيب.
ألم تسمعوهم؟ لقد دقّوا الجدران... لكن لا أحد يريد أن يسمع.
وكان غسان كنفاني، يوم اغتياله في صيف بيروت، على موعدٍ مع صديقه الدكتور أنيس صايغ، كما ذكر الأخير في مقالٍ نُشر لاحقاً في صحيفة السفير اللبنانية.
تساءل أنيس، والحزن يقطر من كلماته: "غسان كنفاني كان فوضوياً في مواعيده، يتأخر، ينسى، يبدّل...
لكنه في ذلك اليوم الغريب كان دقيقاً، دقيقاً إلى حد أنني لم أفهم لماذا."
ربما كان يعلم، أو يشعر، أو يودّع بصمته، كما ودّع أبطال خزان الشاحنة في روايته.
دقّ هو جدران القدر في لحظة الصدق الأخيرة.
رحل جسد غسان، لكن صرخته ما زالت تتردّد، حادّة، دامية،
في أزقة غزة...
لا شيء أقسى من الصمت حين يصبح الصراخ بلا فائدة،
ولا شيء أشد وجعاً من مدينةٍ تنزف وحدها، وتُدفن مرتين:
مرةً تحت الركام، ومرةً تحت الخذلان.
غزة لا تريد منّا دموعاً، بل وقفة.
لا تطلب رثاءً، بل كسراً لجدران هذا الخزان الأبكم.
لكن يبدو أن العالم قد اعتاد على صوت الموت،
حتى بات جزءاً من خلفيته اليومية.
وغزة ما زالت تدقّ جدرانها بأظافرها،
تحت الرماد، تحت الليل، تحت ألف خيانة،
وما من يدٍ تمتدّ...
وما من غسانٍ جديد... يسمع.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة