أمير… طفلُ غزّة الذي مشى إِلى العدس فقتلتهُ رصاصةٌ: وصمةُ عارٍ في جبينِ الإنسانيّةِ!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي لحظة تختصر وجع قرنٍ من الخذلان، وفي شهادة تقشعرّ لها الأرواح قبل الأبدان، روى جندي أمريكي — عبر بودكاست حديث — قصة الطفل الفلسطيني أمير، الذي مشى 12 كيلومتراً حافياً، تحت شمس أيّار الحارقة، ليجمع حفنة عدس… ويعود جثة هامدة برصاصة أطلقها الاحتلال على جمعٍ من الجائعين، لحظة مغادرتهم مركز توزيع مساعدات في تلّ السلطان برفح.
قبّل أمير يد الجندي الأمريكي بعد أن التقط كيساً صغيراً من العدس والأرز عن الأرض. كانت "شكراً" كل ما نطق به هذا الطفل النحيل، في لحظة فطرية من إنسانيته. ربما ظنّ أن الحياة بدأت تعطيه شيئاً، ولو فتاتاً من عدالة مفقودة. لكن تلك "الشكراً" كانت الوداع الأخير. دقائق فقط، وتحوّل المكان إلى جحيم من الغاز والرصاص. قُتلت فيه طفولة أمير، وسكنت صورته في ضمير ذلك الجندي، الذي قال بصوت منكسر:
"لن أنسى وجهه، لقد شكرني… ثم مات."
هل كانت يداه الصغيرتان تهدّدان أمن الاحتلال؟
هل كانت خطواته الحافية تستفزّ عروش العرب؟
هل كان جسده الهزيل يستدعي كل هذا الرصاص؟
ليست قصة أمير حدثاً نادراً. إنها مشهد متكرّر في غزة اليوم، التي تحوّلت من مدينة نابضة بالحياة إلى مقبرة مفتوحة، يطارد فيها الموتُ الجائعين، وتُستهدف فيها طوابير المساعدات كما تُستهدف الثكنات العسكرية.
في تقرير مؤلم نشرته وكالة أسوشيتد برس، وُصفت عمليات توزيع الإغاثة بأنها "مصائد موت"، قُتل فيها أكثر من 1,050 فلسطينياً، معظمهم أطفال ونساء وكبار سن، خرجوا يبحثون عن طحين، ورز، وعدس… عن فرصة ضئيلة للنجاة.
قوات الاحتلال، بدعم من شركات أمنية أمريكية متعاقدة، تُطلق الرصاص على أفقر الجائعين، وتغلق الطرق، وتمنع دخول الغذاء والماء والدواء، في حصار هو الأشدّ في العصر الحديث.
لم يُقتل أمير برصاصة الاحتلال فقط. لقد قُتل بصمت العرب، وتواطؤ العالم الإسلامي.
قُتل بصوت قادة يتحدثون عن "التهدئة" بينما يُباد الأطفال.
قُتل بأحرف بيانات الشجب التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
أمير، ابن غزة، يموت كل يوم في وجوه الملايين، في نشرات الأخبار، في صمت الخطب، في تبادل الابتسامات بين وزراء الخارجية، وفي صلوات لم تعد تصعد من قلوب هجرتها الغيرة والكرامة.
هل هذا هو "العالم الإسلامي"؟
أين حكّامه؟ وأين شعوبه؟
هل أصبح دم الأطفال أقلّ قيمة من بيانات النفط وصفقات التطبيع؟
ما يحدث في غزة ليس حرباً، بل انهيارٌ للإنسانية.
إنه اختبار فشلت فيه البشرية جمعاء، وسقط فيه الضمير العالمي في الهاوية.
مئات الآلاف من الأطفال بلا طعام، بلا ماء، بلا مأوى،
محاصرون تحت قصف لا يرحم،
في ظل صمت رسمي عربي ودولي مريب،
وأمام شاشات العالم التي اعتادت على مشهد الجثث دون أن ترتجف.
في غزة، يمشي الأطفال إلى الموت.
في غزة، يُقبّل الجياع يد من يعطيهم الفتات… قبل أن يقتلهم الرصاص.
في غزة، تُصوّر المجازر من كل زاوية… ولا يتحرّك شيء.
أمير هو وجه كل طفل فلسطيني حُرم من حقّه في الحياة.
هو نداء كل أمّ تنام على حجرٍ بارد لا تعرف إن كان طفلها سيستيقظ حيّاً.
هو وصمة الخزي على وجوه من خذلوه، وألقوا به إلى الجوع والموت، ثم عادوا إلى قصورهم.
سيبقى اسمه محفوراً في سجل أسود،
سجلّ عنوانه: هنا خذلت البشرية طفلاً جائعاً… وقتلته.
يا أمير، فقد أصبحت رمزاً،
لكننا نحن، من بقينا أحياء… نحن الموتى الحقيقيون.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.

أضف تعليق
قواعد المشاركة