غزة.. مرآة الإنسانية!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيفي غزة، ذلك الشريط الصغير على خريطة العالم، تُكتب أعظم الحكايات الإنسانية. فغزة ليست مجرد جغرافيا محاصرة بالبحر والأسلاك، بل هي رمز لإنسانٍ اختار أن يتمسك بكرامته، حتى وهو يواجه أقسى الظروف. هناك، حيث يعلو صوت الأطفال فوق هدير الطائرات، وحيث تزرع الأمهات الأمل في قلوب أبنائهن رغم الدمار، يولد المعنى الحقيقي للشجاعة.
أهل غزة لا يملكون الكثير من مظاهر القوة، لكنهم يملكون ما هو أسمى: الإصرار على البقاء بكرامة. في كل بيتٍ مهدّم قصة حبٍّ لم تنطفئ، وفي كل شارعٍ مدمر حكاية صمودٍ لم تُكسر. وهم يرفعون للعالم رسالة صامتة: أن الكرامة ليست شعاراً يُرفع، بل حياة تُعاش، وجذورٌ لا تُقتلع.
وفي المقابل، يقف من يمدّ يده ليستولي على الأرض والبيوت. يظن أنه يكتب التاريخ بالقوة، لكنه في الحقيقة يزرع بذور العزلة والعار. فالتاريخ لا يرحم الظالمين، ولا يخلّد إلا الذين صبروا، ودافعوا عن حقّهم في الحياة، وأحبّوا أرضهم حتى الرمق الأخير.
في غزة يتجلّى بوضوح الفرق بين من يعيش ليحفظ إنسانيته، ومن يعيش على حساب إنسانية الآخرين. الفرق بين طفلٍ لا يحلم إلا بأن ينام في أمان، وبين من يحاول أن يسرق هذا الحق البسيط. بين أمٍّ تزرع الأمل في قلب ابنها، وبين من يزرع الخوف في قلوب الأبرياء.
الشجاعة الحقيقية هنا ليست في السلاح، بل في أن ينهض الناس كل صباح من تحت الركام ليواصلوا الحياة. أن يبتسم طفل رغم الجراح، وأن تصرّ امرأة على تعليم أبنائها رغم فقدان المدرسة، وأن يتقاسم الجار مع جاره آخر رغيف خبز. هذه هي البطولة التي لا يكتبها الإعلام، لكنها تُسطَّر في ذاكرة الأجيال.
ولأن غزة تحمل جراحها بكرامة، فإنها تعلّم العالم درساً خالداً: أن الأرض تُحَب كما تُحب الأم، وأن الكرامة لا تُباع ولا تُشترى. وبين من يتمسك بشرفه وأرضه، وبين من يحتلها، يبقى الفخر دائماً مع من جعل من صموده فعلَ حبٍّ وسلام، لا فعل كراهية وانتقام.
إن غزة اليوم ليست مجرد قضية سياسية، بل قضية إنسانية كبرى. إنها مرآة تضعنا جميعاً أمام سؤالٍ أخلاقي: هل نقف مع من يحيا ليحفظ كرامته، أم مع من يسلب كرامة غيره؟ والإجابة، مهما حاولوا طمسها، واضحة كالشمس: الكرامة تنتصر، حتى وإن طال الطريق.
[محمود كلّم] كاتبٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة