المفاوض الفلسطيني بين الخيبة والإنصاف!
محمود كلّم
كاتب فلسطينيكثُرت في الآونة الأخيرة موجات الانتقاد والتخوين الموجّهة إلى المفاوض الفلسطيني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حتى بدا وكأنّه هو العدو لا من يفاوضه. وفي خضمّ هذا الجدل الحاد، يغيب صوت العقل الذي يدعو إلى التروّي والإنصاف. هذا المقال محاولة لوضع الأمور في سياقها الصحيح، بعيداً عن الانفعال، وعن أحكامٍ تُلقيها العواطف قبل الحقائق.
الإحساس بالخيبة ثقيل علينا جميعاً. ثقيل على قلوبنا التي تنتظر الفرج، وثقيل على أحبائنا الأسرى الذين يحلمون بالحرية، وثقيل أيضاً على المفاوض الفلسطيني الذي يقف في قلب العاصفة، محاصراً بين الواجب والواقع، بين الأمل والخذلان، بين الدم والسياسة.
لكن من الظلم أن نحمّل المفاوضين أكثر مما يحتملون، أو أن نضعهم في موضع الاتهام السهل كلّما خذلتنا النتائج. فالمفاوض ليس خصماً للأسرى، بل هو امتداد لهم، يحمل وجعهم على كتفيه ويقابل به وجوه المحتلين وألاعيبهم.
المفاوض الفلسطيني ليس ذلك الجالس على طاولةٍ مريحةٍ في قاعةٍ فخمة، بل هو الذي فقد بيته وأهله ورفاقه، وهو الذي يعرف أن كلّ كلمةٍ يتفوه بها قد تكون ثمن حياةٍ أو حرية. كلّ نفسٍ يتنفسه هناك، يدفع مقابله جهداً ودماً وأرقاً لا يراه أحد.
إنّ من السهل أن نحاكم من في الميدان ونحن خلف الشاشات، لكن من العدل أن نُدرك أنّه يفاوض محتلاً خبيثاً، مراوغاً، يتلاعب بالكلمات كما يتلاعب بالحدود والتاريخ، ويبدّل المعاني ليغسل بها جرائمه. هذا العدو لا يعرف شرفاً ولا التزاماً، ومن يواجهه لا بد أن يحمل صبراً بحجم الوطن.
المرحلة صعبة ومعقدة، والعدو شرس ومجرم، والوسطاء ليسوا نزيهين ولا محايدين. فهم في الغالب شركاء في صناعة الألم، مجاملون للعدو، متواطئون بصمتهم أو بضغطهم. ومع ذلك، يقف المفاوض الفلسطيني وحيداً، يحاول أن ينتزع حقّاً من فم الذئب، وأن يحافظ على ما يمكن الحفاظ عليه في زمنٍ ينهش فيه الجميع أرضنا وكرامتنا.
فلنكن منصفين. لا نبخسهم حقهم، ولا نثقل عليهم بما لا يحتملون. ليسوا خونةً ولا متخاذلين، بل بشرٌ يقاتلون على جبهةٍ أخرى، بالكلمة والصبر والحيلة، في وجه محتلٍّ لا يرحم.
المقاومة وجوهٌ كثيرة، منها من يحمل البندقية، ومنها من يحمل الموقف، ومنها من يجلس إلى الطاولة وهو يعلم أن خصمه لا يؤمن بالسلام. فهل بعد هذا نلومهم؟
إنها كلمة حق:
لا تلوموا المفاوض الفلسطيني، فمكانه ليس سهلاً، ولا موقعه مريحاً، لكنه واحدٌ من خطوط المقاومة، وإن اختلف شكلها.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
أضف تعليق
قواعد المشاركة